- 11 -
عقل غير هادئ !
- 1 -
المساء الذي خيّم على الضاحية كان غاية في الهدوء .. ما تزال
المنازل مضاءة لتنثر جمالا آسرًا كأنّها لوحة فاتنة وسط الظلام ..
أمام النافذة وفي يدها كوب من الشاي الأخضر تقف " فاتن " شاردة الذهن ..
لقد مرّ شهر حتى الآن ..
وماتزال الكثير من الأمور العالقة التي
تودّ أن تجد
لها تفسير !
نظرت إلى مكتبها التي تكوّمت عليه
الأوراق ..
" لدي الكثير من الرسائل التي علي كتابتها .. بدأتُ العمل في البريد منذ
أسبوع ..إنّها فقط البداية والكثير من الرسائل التي تحتاج للكتابة ..
ولا أصدق أنّه مرّ شهر ومازلت أتخبط
في هذا المكان ! كيف حدث ذلك ؟!
كنتُ دائمًا أتفاخر بأنّي اجتماعية ..
وسرعان ما أنسجم في أيّ مجتمع ..
لكن بالنظر لوضعي الراهن .. المشكلة
أنّ الجميع لطفاء .. لكنّي أيضا امرأة
جيّدة في العمل ..
ومنجزة .. و ... "
_ سيدة فاتن ..
هل هذا يحتاج للغسيل ؟!
التفتت " فاتن " بفزع وأخذت نفسًا عميقًا في حين استطردت " نارين " وهي
تمسك بقميص وردي :
_ أوه آسفة سيدتي .. لكن
علي أن أنجز الغسيل قبل الثامنة مساء حتى أستطيع
الكيّ غدًا ..
نظرت لها "فاتن " بعد أن استرخت :
_ نعم يحتاج ..
_ شكرًا سيدتي ..
توقفت " نارين " بعد أن ابتدرتها فاتن :
_ نارين ؟
التفتت نارين في حين أكملت "
فاتن " بتردد :
_ هل ..
هل .. واجهت .. صعوبة حين قدمت هنا ؟!
نظرت لها " نارين " مشدوهة من السؤال ثم
أجابت ببطء وبتحفظ :
_ بالنسبة لوضعي .. سيدة
فاتن .. أيًّا كانت الصعوبات .. فهي لا تساوي شيئًا
أمام ظروفي التي كنتُ أعيشها !
_ أووه لم أقصد التطفل على خصوصياتك ..
_ لا.. لا ، سيدة فاتن ولكن وضعي يختلف كثيرًا عن وضعك .. إذ .. إذ ليس
لدي أيّ خيار آخر سوى أن أتابع السير في الطريق الذي اخترته .. إضافة
لذلك ..الصعوبات لم تكن في اختيار الطريق بقدر التغيير الذي أراه كلّ يوم
وأعيشه سنة تلو سنة ..
وضعت فاتن كوب الشاي جانبًا باهتمام قائلة
:
_ لم أفهم !
_ ما أعنيه أيّتها السيّدة أنّني حين
قبلتُ العمل هنا كانت الظروف مناسبة
لي للغاية .. ولكن مع مرور السنوات والتعقيدات والأحداث والتغيير الذي
لم يعد مناسبًا لي كما كان لم يعد باليد حيلة .. التراجع أصبح مستحيلاً !
_ لماذا ؟
تنهدت نارين وهي تقول :
_ ثمّة الكثير من الأمور التي يصعب
تفسيرها خصوصًا حين تموت ويدفنها المرء
بيديه !
بدت علامات الجمود على وجه نارين
بشكل مخيف وهي تنطق بالجملة الأخيرة ..
_ عن إذنك سيدتي !
غادرت نارين بينما جلست فاتن بعد أن شعرت بخوف ثم نظرت لكومة الأوراق
المبعثرة .." أعتقد بأنّ هناك الكثير من الأوراق التي علي فكّ طلاسمها
وترتيبها .. يبدو أنني حقًا أحتاج لستة أشهر حتى أستطيع أن أفهم جيدًا
التفاصيل التي أمرّ بها !"
- 2 -
تأمّلت نارين "
فاتن " وهي تحاول إخفاء ابتسامة الإعجاب ..
فالتنورة الخضراء والقميص الوردي المخطط باللون
الأخضر الفاتح
يناسباها تماما .. جلست وبدأت تأكل
بسرعة :
_ سيّدة فاتن مازال الوقت باكرًا ..
_ لديّ الكثير من المهام ..
الرسائل يجب أن توضع اليوم في البريد ..
وقفت بعد خمس دقائق وهي تقول على عجل :
_ شكرًا نارين ..
خرجت تاركة نارين في حالة ذهول وهي
تتمتم :
_ ظننتُ بأنّها لا تريد العمل !
- 3 -
ها هو مبنى البريد .. إنّه أنيق ومميز .. وهذا ما يخفف عنها
انزعاجها الناجم عن كونها لا تريد العمل فيه ..
تأملت المكان يبدو أنّها أوّل الواصلين اتجهت لمكتبها والذي يطلّ
على نافذة من الزاوية اليمنى للمبنى ..وعلى يسارها كان مكتب مها إذ
كانت شريكتها في الغرفة .. جلست .. وما إن استقرّت على المكتب ..
حتى تفاجأت بسيّدة على أعتاب الستين ..كانت ترتدي قميصًا من الحرير
وتنورة زرقاء طويلة ..
_ أنتِ الوحيدة الموجودة هنا ؟
_ يبدو ذلك !
_ هذا جيّد إذن يمكنني أن أبد الآن ..
بدت السيدة واثقة للغاية ومدّت لها بورقة لكن فاتن تنهدت بابتسامة
مصطنعة وهي تتأمّل يد السيدة الممتلئة بالخواتم الثمينة :
_ لكنّ ساعات العمل لم تبدأ بعد سيّدة ..هل
يمكنني التعرف ؟
قاطعتها السيّدة بضيق وصدمة :
_ يبدو أنّك مستجدة هنا ..
حسنًا أحتاج أن أوضح لك ..
جلست أمام مكتبها وهي تقول ببعض
الضيق والملل :
_ أنا السيّدة أمل المشرفة العامة على الوحدة "
أ " .
نظرت لها فاتن وهي ماتزال تحاول ضبط
نفسها وبالابتسامة ذاتها :
_ سيدتي أقدّر كونك مشرفة .. ولكن هذا لا يعطيك الحق أن تطلبي مني
العمل وساعات العمل لم تبدأ بعد ..
نظرت لها السيدة بذهول ثم حاولت أن
تبتسم بغيظ :
_ سآخذ في الاعتبار أنك مستجدة كما قلت .. ولكن يفترض أن تعرفي ما
معنى وحدة ( أ ) .
هزت فاتن كتفيها متظاهرة بعدم
الاهتمام وهي تنهض لتعدّ قهوتها :
_ أوه سيّدتي أعتقد أنّ هناك سوء تفاهم .. العمل لا يعترف بالوحدات ..
الجميع هنا متساوون .. لذا تفضلي خذي رقمك وانتظري دورك .. مازال
لدي خمسة عشر دقيقة لتبدأ ساعات عملي ..
اتسعت عينا السيدة بغضب ..
كانت آلة القهوة تعمل حين نهضت السيّدة :
_ يا إلهي ! هذا
فظيع .. هذه إهانة !
خرجت السيّدة لدرجة أنها دفعت الباب
بقوة وهي تصيح :
_ لن أسمح أبدًا بمثل هذا التجاوز .. أين
السيدة منال ؟!
جلست فاتن وهي تحاول ضبط نفسها
وتحتسي القهوة قائلة بسخرية :
_ السيّدة منال !!
حتى لو كانت السيدة إشراق بنفسها .. لن أتنازل
عن حقي ..
- 4 -
_ لا أصدق أنّك ارتكبت هذا الخطأ
الفظيع بحق السيدة " أمل " !
كانت العبارة الأخيرة توبيخًا لفاتن التي تقف أمام مديرة المؤسسة .. في
حين ردّت فاتن بهدوء مصطنع :
_ لم أخطئ بحقها .. كلّ ما طلبته منها
أن تأخذ دورها !
حدقت السيّدة منال بدهشة عالية :
_ ماذا تعنين ؟!
_ أعني بأنّي لم أتطاول أو أرفع صوتي أو أسيء لها بلغة الجسد ..
إنّني باختصار طلبتُ أبسط حقوقي !
_ أبسط حقوقك ؟
_ بالطبع .. السيدة أمل جاءت قبل التاسعة بنصف ساعة من بدء
ساعات العمل ..
_ السيّدة أمل من المؤسسات لهذه
الضاحية .. ولها مكانة عالية ..
لم يسبق لمؤسستنا أن تعاملت بهذه الطريقة مع العملاء !
_ هذه التفاصيل لا تهمني سيّدة منال .. ما يهمني أنّني أقوم بعملي
بشكل جيد دون محاباة أو تمييز !
كانت السيدة منال في حالة من الصدمة
والذهول وهي تنطق :
_ محاباة !
_ أجل ، إذن ماذا تسمين ذلك ؟!
نهضت السيدة منال غاضبة وهي تحاول
السيطرة على نفسها:
_ إنّ مؤسستنا تتسم بالنزاهة مع كلّ الأشخاص .. ثم أنّ السيّدة أمل
مؤكد كان لها مبرراتها الخاصّة التي لا يحق لأحد أن يطلع عليها ..
قالت فاتن وهي تحاول بقدر المستطاع
أن تسيطر على انفعالها:
_ إذن أنا أيضًا رفضي له مبرراته
الخاصّة والتي لا يجب أن يطّلع
عليه الآخرون ..
كانت السيّدة "منال "عند هذه الجملة قد أصيبت بصدمة الصمت
وحين لم تتلق فاتن إجابة استطردت بانتصار
:
_ أعتقد بأنّ علي الذهاب لإكمال
مهامي عليّ تسليم البريد اليوم ..
اتجهت نحو الباب وحين وصلت إليه
استدارت قائلة :
_ بالمناسبة السيّدة " أمل
" مدينة لي باعتذار !
خرجت " فاتن " تاركة
السيدة " منال " في حالة من الغضب والصّدمة
تنفست بغيظ وهي تردد :
_ يا لها من امرأة فظيعة !
أغمضت عينها وكأنّها تحاول ضبط
انفعالاتها والتصرّف بحكمة ..
" يا لها من جريئة "
" ومع أنّها محقّة ..لابدّ وفي النهاية ستقدم
اعتذارًا .. "
" يا للحماس .. لقد مرّت فترة
طويلة قبل أن نرى مثل هذه الإثارة "
" معك حق .. أنا متحمسة مثلك
رغم علمي بالنهاية "
كانت هذه العبارات والهمسات والحركة التي بدت غير عادية بين
العاملات قد وصلت لمسامع فاتن وهي في طريقها لمكتبها .. لقد كانت
الابتسامة والثقة لا تفارقانها وهي تسير لنهاية الممر حيث هناك يقع
مكتبها .. كانت تعلم أنّ زميلاتها يرقبنها لذا حرصت كلّ الحرص أن
تغلق الباب بكلّ هدوء ..
- 5 -
" وأخيرًا سأسلم البريد وكلّ
المتعلقات اليوم .. هذه آخر رسالة أكتبها .."
تأملت الرسالة الأخيرة بابتسامة وهي
ماتزال غارقة في تأملاتها
" يا للسخرية ، لا أعرف كيف تثق
هؤلاء النساء بهذه المؤسسة
لدرجة أنّهن يفضين إلينا بأسرارهنّ لنكتبها "
قطعت حبل أفكارها " مها " التي دخلت بقوة وأوصدت الباب وتأملت
" فاتن " :
_ لا تقولي أنّ الأخبار المريعة التي
سمعتها حقيقة !
ابتسمت فاتن وهي ترد :
_ هذا يعتمد على الرواية التي قيلت
لك !
_ إذن السيّدة أمل كانت هنا حقًا ..
_ تلك السيّدة المتغطرسة ؟ لا أصدق
أنّك تهتمين لأمرها ..
_ " فاتن " الأمر ليس
وكأنّي سأصنع قصرًا لها ولكنّها سيدة جدًا
مهمّة في أوساط الضاحية !
_ إلى أيّ درجة مهمة ؟
_ تستطيعين القول بأنّها من المحركات
الأساسية لهذه الضاحية
فيدها في كلّ شيء تقريبا في الجمعيات .. في الصحافة .. في المتاجر ..
في المؤسسات الموجودة هنا .. سيدة من
الشخصيات المهمة .. ويتداول
الجميع بأنّها شريكة في الضاحية ..
نظرت فاتن لها بعد أن تنهدت :
_ أيًّا كان أنا لم أخطئ بحقها..
تصرفتُ بمهنية .. ثم لا أتخيّل أنّها لا تجيد
الكتابة حتى تطلب مني كتابة رسالة
لها ..
_ " فاتن " ماذا جرى لكِ ! لا
يهمنا إن كانت تستطيع أم لا ؛ نحن نقدم خدمة
أيًّا كانت ظروف العميل .. هذا ليس من
شأننا ..
_ لا أفهم سبب هذه الضجّة ، لسيّدة
جاءت قبل بدء الدوام وتريدنا تحت
أمرها بطريقة مستفزة ..
_ اسمعي ، أعتقد بأنّكِ يجب أن تفكري كيف
تقدّمي ..
قاطعتها فاتن وهي تجمع الرسائل :
_ لن أناقش هذه التفاصيل المزعجة
الآن .. لدي كمّ من الرسائل يجب أن
تصل لأصحابها .
أخذت فاتن الحقيبة وهي تلبس قبعتها وسط
دهشة مها وانطلقت قائلة :
_أراكِ غدًا ..
_ غدًا ؟! انتظري .. فــ .. فـاتن !
تنهدتْ مها وهي تقول :
_ يبدو أنّ لديّ الكثير من المهام
التي يتوجب عليّ القيام به معها !
- 6 -
نظرت " فاتن " للشمس التي تنعكس على البحر أمامها .. أوقفت
دراجتها لبرهة وتأملت منظر البحر قليلاً ثم نظرت لحقيبتها التي لم يتبق
فيها سوى رسالة واحدة .. أخذت نفسًا عميقًا ثم نظرت للخلف وهي
تتأمّل المنازل الأنيقة التي تطلّ على البحر " ليتني كنتُ قادرة على
شراء منزل أمام هذا المنظر الجميل .. الوحدة ( ج ) ! آسرة جدًا ..
المنازل هنا تتميز بتصميم فريد .. تبدو أكبر ومساحات الحدائق
أوسع " انطلقت بدراجتها بمحاذاة المنازل إلى أن وصلت للمنزل
المطلوب ابتسمت فاتن حين رأت السيّارة الواقفة أمام المنزل
فهي ذات لون أخضر يميل للأزرق وهي من نوع عتيق فاره لطالما
تمنت أن تركب سيّارة من هذا النوع !
تنهدت ثم وضعت الرسالة في الصندوق المخصص وبينما هي تهمّ
بالرجوع .. خرجت من المنزل سيدة أنيقة جدًا والتي توقفت ونظرت
لها قائلة :
_ عذرًا .. هل تريدين شيئًا ؟!
أخذت الدهشة فاتن إنها السيّدة نفسها التي قابلتها ذلك اليوم في
الحديقة ..السيدة التي كانت تقرأ .. كررت السيّدة سؤالها :
_ هل أعرفك ؟ هل تريدين شيئًا يا
سيدة ؟!
شعرت فاتن بغيظ شديد " إنّها حتى لا تتذكرني " ولكنها ردّت بهدوء :
_ لا ، شكرًا لقد وضعت الرسالة فقط ..
بعد أن أمعنت النظر ورأت الحقيبة
الخاصة بالرسائل ابتسمت قائلة :
_ آه أنت من البريد ! شكرًا لكِ لو
كان لدي متسع من الوقت كنتُ
دعوتكِ لشرب الشاي لكن كما ترين أنا
في عجلة من أمري !
وبرغم لطف السيدة ردّت فاتن بابتسامة ساخرة :
_ لا داعي لهذه المجاملات الكاذبة ..
أنا أيضًا على عجلة من أمري ..
شكرًا لكِ أيتها السيّدة !
توقفت السيّدة بذهول في حين ركبت فاتن دراجتها .. إنّه موعد
عودتها للمؤسسة لتسلّم الدراجة .. ثم عليها أن تلحق بالحافلة
التي ستقلها لمنزلها .. وأخيرًا الساعة الخامسة وفي الحافلة
" ياله من يوم شاق .. ومزعج! لماذا كان ردي على تلك السيّدة
غير مهذب ؟! أعتقد حتى لو كان لديها متسعًا من الوقت لن تفعل
ذلك .. "
تأمّلت من النافذة الأشجار المتراصة والشمس التي تتخللها ..
" أنا حقًا أملك عقلاً غير هادئ ومتخبط بسبب تلك السيّدة التي
عكّرت مزاجي منذ الصباح .. لقد قالت إنّها من الوحدة ( أ )
سبق وأن سمعتُ عن هذه الوحدة .. "
اتسعت عيناها .. " آه صحيح إنّها الوحدة التي سخرت منّي
فيها تلك السيّدة حين كنت مع السيّدة آمال .. يبدو أنّ هذه
الوحدة مليئة بالمتعجرفات التي يجب أن يقفن عند حدّهنّ ! "
ابتسمت بفخر وتنهدت بارتياح " على الأقل فعلتُ شيئًا صحيحًا
هذا الصباح .. "
وصلتْ لمنزلها لتجد أمامه سيّارة السيّدة آمال .. نظرت
بامتعاض ولكنّها رغم تعبها ابتسمت بمكر " هكذا إذن ، مادام
الأمر يسيرهكذا فقد قبلتُ التحدّي " .
يــتـبــع
حنان الغامدي