الخميس، 6 أغسطس 2020

♨ .. يومًا ما .. 6 .. ♨

سلسلة

                                               -         6    -

.. حبال بين الخيوط  .. 

                        -    1   -

        ضغطت بتوتّر جرس الباب الموجود أمامها ..

 الهدوء يلفّ المكان ..تأمّلت المنازل حولها والتي 

كانت ماتزال مضاءة ..

نظرت فاتن لساعتها وكأنّها تتأكد من الوقت ..

 ثمّ تنفسّت بعمق حين سمعت صوتًا من الداخل :

_ حاضر أنا قادمة ..

عدّلت فاتن هندامها بشكل سريع للمرّة الأخيرة 

قبل أن تفتح " نسرين " الباب والتي ابتسمت 

حين رأتها قائلة :

_ أهلاً بك ..

ابتسمت " فاتن " وبعد أن تبادلا التحايا قالت نسرين :

_ سعيدة جدًا لقبولك دعوتي المتواضعة ..

_ وأنا أكثر سعادة لنبلك وكرمك ..

_ تفضلي .. تفضلي .. أنا جدًا سعيدة ..

دخلت " فاتن " لتجد المنزل الجميل الهادئ في 

ألوانه ..كانت " نسرين"  تعتمد تدرجات اللّون 

الرّمادي في أثاث منزلها .. مع بعض درجات ألوان 

الباستيل الدافئة ..

       أجلستها في غرفة الجلوس .. ثم غابت قليلاً 

تاركة فاتن تتأمّل الغرفة الأنيقة والتي كانت وسائدها 

وإضافاتها بلون فاكهة المانجا .. حيث أعطت الإضاءات 

الخافتة والشموع في أرجائها أجواء ذات طابع

 دافئ ومميّز ..

     استرخت بابتسامة رضا حين رأت نسرين قادمة

تحمل كأسين من العصير قدمت لها واحدة وأخذت

الثانية .. تأمّلت فاتن "نسرين " التي كانت ترتدي

سروالاً من الجينز وقميصًا أبيض طويلا ..

كانت زينتها بسيطة وهادئة ..

ابتدرتها " نسرين"  قائلة :

_ لا تتخيلين حجم سعادتي لمجيئك ..

نظرت فاتن إليها بابتسامة ممزوجة بتعجب لكنّ

نسرين التي استطاعت قراءة ملامحها استطردت

قائلة  :

_ أنا حقًا سعيدة بقدومك ..

_ وأنا جدًا أكثر سعادة بهذه الفرصة !

رانت فترة صمت قطعتها " نسرين " قائلة :

_ حسنًا ، ربما تستغربين حماستي وسعادتي بك

 .. وربما تقولين في نفسك أنني أبالغ ..

شربت " فاتن " قليلاً من العصير بينما أكملت 

" نسرين "  قائلة :

_ لستُ أدري من أين أبدأ للتعريف بنفسي

جيدًا ..؟  

_ ابدئي بما ترينه مناسبًا .. وسأشاركك ما

استطعت ..

_ حسنًا .. يجب أن أصدمك أولاً ..لقد أتيت هنا

حين كنت في الثلاثين من عمري .. أي تقريبًا قبل

 عشر سنوات ..

_ حقًا ! بقيتِ هنا عشر سنوات ؟!

_ تخيلي !

أكملت بابتسامة :

_ حين أتيتُ هنا لأوّل مرة أعجبني المكان وأحببته

جدًا .. تعلّقت به .. شعرتُ باستقرار لم أشعر به

من قبل في حياتي .. ومازلتُ أريد البقاء فيه لآخر

لحظة من حياتي ..

_ لهذه الدرجة !!

_ نعم ، لا أتخيل نفسي في مكان آخر غير هذا ..

تنحنحت " فاتن " ثم قالت :

_ سبحان الله ..! ولكن لابدّ أنّ لديك تجاربك

الخاصّة ..

وبتردّد واضح أكملت :

_ هل كانت تجربتك القاسية هي التي جعلت هذا

المكان يشغل كلّ هذا الحيّز بداخلك ؟!

_ ربما ..! كلّ شيء في هذا الزمن وارد ..

حتّى هذا المكان ليس خاليًا من القسوة فهو

ليس الجنّة ..

_ أكيد ..!

_ أتعلمين ؟! أحيانًا حين تخرجين من واقع

سيء وتنتقلين لمكان يوفّر لك حياة افتقدتِها

فترة طويلة ستشعرين أنّك بدأت حياتك للتوّ ..

وحتّى حينما تواجهين محطات سيئة.. تضطرين

للتغاضي عنها .. لأنّك ربما مررتِ بما هو أسوأ ..

تنهدت " نسرين " ثم تابعت :

_ أظنّ بأنّ الأزمات لا تتوقف .. هي تترك لنا

مساحة لنتنفس ونضع سيفنا وخوذتنا بعض

الوقت .. لكنّنا لا نلبث أن نرتديها من جديد

 لنكمل المعركة التي بدأناها ..!

شعرت " فاتن " في تلك اللحظة بأنّها أمام سيّدة 

غيرعاديّة .. سيّدة شفّافة  لديها من التجارب القاسية 

التي صقلتها وجعلت منها شخصيّة ناضجة وقويّة ..

تخيّلت نفسها وهي تتحدّث هكذا بكلّ قوّة عن

تجارب الحياة التي مرّت بها .. حتمًا ليس لديها 

رباطة الجأش هذه ..

حينها قالت " فاتن " بتأثر :

_ أنتِ محقّة ..! أعتقد بأنّ كلّ سيّدة قررت

المجيء هنا لديها قصّة مؤلمة وحزينة ترويها ..

ولكن مازال هناك سؤال يلحّ علي ..

_ تفضلي ..!

_ أنا لا أعرف هذا المكان جيدًا .. مازلت

 أكتشفه .. وأعتقد أنّ لديك الكثير من الصديقات

حولك .. لا أريد أن أكون فظة بسؤالي .. ولكنّ

توددك لي يجعلني أتساءل عن طلب صداقـ ..

حينها قاطعتها نسرين :

_ فهمت .. حسنًا سأخبرك بالأمر .. لأنّي

حقًا أرغب ببدء صفحة جديدة والخروج من هذا

البئر الذي أدخلت نفسي فيه طوال أربع سنوات

مضت ..

كانت " فاتن " تنظر بدهشة لنسرين التي تابعت :

_ قبل تسع سنوات تقريبًا سكنت إحدى السيدات

المنزل الذي تملكينه أنت .. ومع مرور الوقت

نشأت بيني وبينها صداقة عميقة ..كنّا كالأختين

 تمامًا .. لم أكن أخفي عنها شيئًا .. وهي كذلك

 لم تشعرني بأنّني غريبة ..كنّا ككتابين مفتوحين

لبعضنا ..

وضعت " فاتن "  كأس العصير جانبًا وهي تتابع

 كلام " نسرين " الذي شدّها والتي أكملت بعد 

أن شربت من عصيرها قليلاً :

_ كان اسمها " أمل  ".. أعطتني الكثير من الأشياء

ولا أعني هنا الأشياء المادية بل المعاني السامية

التي كانت تجيد إهداءها بكلّ عفوية وتلقائية ..

علمتني الكثير من الأمور .. كانت ملفتة في حديثها

في ثقافتها في ذكائها .. أظنّها حملت من اسمها 

الكثير ..!

نظرت " فاتن " بتأثر وهي تقول :

_ لا تقولي بأنّه حدث لها مكروه .. أعذريني أنا

حسّاسة تجاه هذه القصص ..

تنهدت " نسرين " قائلة :

_ لا .. لم تنته القصة على هذا النحو ..

_ إذن ..؟!

_ بعد ستّ سنوات تقريبًا استيقظت في يوم خريفي

جميل .. كنا متفقتين على الخروج في نزهة مع 

بضع صديقات أخريات من وحدات سكنية أخرى .. 

لكنّها لم تأتِ لتصحبني  كما اتفقنا مما اضطرّني 

للذهاب إليها .. قرعتُ الجرس مرات عديدة .. لكن 

ليس هناك أيّ أحد يجيب .. اختلستُ النظر من 

النّافذة لا أحد .. جلستُ تقريبًا لربع ساعة ..

في البداية ظننتُ بأنّها سبقتني .. ولكن لم يكن 

هذا ما حدث .. لقد تفاجأتُ حين وصلتُ المكان 

ولم أجدها كنّا كلنا متواجدات ما عداها !

_ وأين وجدتها في النّهاية ..؟!

_ لم أجدها .. ولم ألتق بها مرة أخرى ..!

_ ماذا ..؟!

_ نعم ، إنّها الحقيقة..

_ كيف ..؟ ولماذا ..؟!

_ لا أعرف ..! لقد كان كالحلم .. انتظرت حتى

ساعة متأخرة من الليل .. خرجتُ أكثر من مرّة علّي

أجد نور منزلها مضاء .. لم أستطع تحمل غيابها ..

لذا خرجت منزعجة في وقت متأخر من الليل متجهة

للسيّدة آمال ..

اتسعت عينا " فاتن " قائلة :

_ يا إلهي ..!

ابتسمت نسرين وردّت على انفعالها :

_ حين قرعتِ بابي ليلتها رأيتُ فيكِ نفسي قبل

أربع سنوات .. رأيتُ صدمتك .. خوفك .. قلقك

ملامحك كانت تتحدث .. عرفتُ أنّ الأمر ملحّ

للغاية ..!

_ يبدو أنّي ذكّرتك بآلامك التي نسيتها..

_ لا أحد ينسى آلامه .. الحقيقة أننا نحملها

معنا في كلّ أوقاتنا ..

_ الذكريات ..!

_ نعم .. الذكريات .. لذا لا نستطيع أن ننسى ..

_ ثمّ ماذا ..؟!

_ بعد ذهابي للسيّدة آمال .. تفاجأت بأنّها مصدومة

من عدم معرفتي بالأمر ..

_ أي ّ أمر .. ؟!

قالت بأسف :

_ عن أمر اختفائها وقالت بأنها ستخبرني بنفسها ..

_ من ؟ صديقتك ..؟

_ نعم .. قالت بأنّ " أمل " ستخبرني بطريقتها ..

لكن للأسف كانت طريقتها أقسى من اختفائها

بكثير .. إذ بعد يومين من صدمة اختفائها وجدت

شاحنة لنقل الأثاث تقف أمام منزلها .. كنت غير

مصدّقة لما يحدث .. لسبب ما غادرت دون أن

 تخبرني ..

_ هكذا ! بدون مقدمات .. أو سبب واضح ..

_ هكذا .. بدون أيّ شيء ! والمزعج أنّ من حولي

كان يعرف .. لقد سببت شرخًا كبيرًا في قلبي ..!

_ لكنّكما صديقتان ..

_ كنت أظنّ ذلك .. ولكن للأسف .. الحقيقة المرّة 

أنّي كنت كالبلهاء التي تعتقد ذلك ..  كانت صدمة 

رهيبة عشت على إثرها لحظات عصيبة ماتزال 

محفورة بكل تفاصيلها في ذاكرتي .. لقد برعت في 

إخفاء الأمر عنّي .. لم أعاني من اختفائها المفاجئ

فقط .. بل لمت نفسي أنّي كنت بهذه السذاجة التي

 جعلتني لا أنتبه لأمور كثيرة كانت واضحة وأمامي .. 

لكنّي كنت أفسّرها بطريقة أخرى .. 

_ هذا مؤسف بحق .. لكن ، ألم تحاولي التواصل 

معها بأي وسيلة ؟

_ فعلت .. وكنت حمقاء .. تواصلت عن طريق

البريد الإلكتروني .. وبرامج التواصل الاجتماعي

ولكن لا مجيب  .. كأنّها تبخرت ولا أثر لها .. 

حتى صفحاتها الشخصية على برامج التواصل

اختفت .. 

_ يا للغرابة !

_ أعتذر لإقحامك في قصص قديمة .. آسفة

على هذه البداية ..

_ لا على العكس .. أحب مشاركة الآخرين همومهم ..

أحب أن أساعد بقدر ما أستطيع ..!

في تلك اللحظة نهضت قائلة :

_ هذا لطف منك .. اعذريني على تأخير العشاء .. 

_ لا بأس ..

حينها وقفت نسرين قائلة :

 _ الآن .. هيّا .. تفضلي معي ..

تبعتها " فاتن " كانت المائدة معدّة بشكل أنيق

ولطيف .. حيث المناديل المزخرفة .. والشموع ..

وبطاقة ترحيب على صحنها .. وأربعة أصناف من

الطّعام .. بدا وكأنّه احتفال بسيط أكثر من كونه

 دعوة عشاء عاديّة .. بعد أن جلستا .. قالت فاتن :

_ أهنئكِ لذوقك الرفيع في إعداد وتقديم المائدة ..

ثمّ أردفت بامتنان :

_ وشكرًا لك على هذا التقدير ..

_ أبدًا .. هذا أقلّ الواجب  ..

_ شكرًا للطفك وكرمك ..

بدأتا تناول الطعام .. والتحدّث في أمور عامّة عن

الصداقات .. ودخلتا في قصص متشعّبة من خلال

تجاربهما وتجارب من حولهما ولكنّ " فاتن "

قالت لها :

_ ولكن أعذريني .. بعد كلّ ما حصل معك أراك

تريدين تكوين صداقة أخرى ..؟! لا أقصد

شيئًا لكن بعد هذه الصدّمة ..

_ معك حقّ ..! ولكني أعتقد أن ثلاث سنوات كافية ..

_ عذرًا..؟

_ لقد مكثتُ ثلاث سنوات  في حالة مؤسفة ..حالة

 من الشكّ بكلّ من حولي .. لدرجة أنّي  تصادمت 

مع الجميع .. لقد كنتُ أفتعل المشاكل دون أن أشعر ..

حتى سببّت لهم نفورًا مني .. كنتُ مريعة مع بقية

صديقاتي بشكل لا يصدق .. خسرتهنّ جميعًا واحدة 

تلوالأخرى .. وبعد مرور سنة لم يعد أحد يطرق بابي

إلا نادرًا .. بل دخلت في حالة غريبة وشعور بانعدام

قيمة الأشياء .. لم يعد لأي شيء قيمة في نظري ..

ولولا السيّدات اللطيفات اللاتي أحطنني بالرعاية

والتفقّد رغم سخافتي وتحملنني حتى تخطيت الأزمة

لكنتُ الآن في مصحّة عقلية ..

_ ألهذه الدرجة ..؟!

_ وأكثر .. ! حين وجدتُ نفسي وحيدة هنا .. 

ظننت أنّي وجدت عائلتي الجديدة في صديقتي .. 

لكنني كنتُ مخطئة ..!

_ ألا تخشين بأنّك تكررين الخطأ مرّة أخرى ؟!

_ لا أعتقد يا فاتن .. خطئي أنّي خلطت الأمور ببعضها

وانجرفتُ بمشاعري .. لا يمكن للأصدقاء أن يسدّوا

مسدّ العائلة مهما بلغ تفانيهم معك .. العائلة شيء 

والصداقة شيء آخر .. 

_ لماذا ..؟!  الأصدقاء ليسوا كلّهم " أمل " ..

_ صحيح .. ولهذا خرجت من بوتقة العزلة التي

فرضتها على نفسي .. لا أعني هنا البعد الاجتماعي

إنّما بالسماح للآخرين من الاقتراب منّي  لكنّي حين

كسرتُ أسواري كان بعد فوات الأوان .. الجميع

انصرف عني .. ما ترينه مجرد مجاملات عابرة ..

زميلات فقط ..

تنهّدت وهي تتناول آخر قطعة من الدجاج المتواجد

في صحنها ..في حين ردّت فاتن :

_ الحياة لا تسير دائمًا كما نريد ..

ابتسمتا لبعضهما .. لتكملا حديثهما في أمور 

متفرّقة ..

بعد العشاء قدّمت لها  قطعًا صغيرة من الكعك

المنزلي مع كوب من القهوة بادرت فاتن قائلة

 وهما تجلسان في غرفة المعيشة الصغيرة التي

 تزينها آنيتان من الزهور الصفراء وبعض

 الشموع المتناثرة :

_ أنا سعيدة بمعرفتك نسرين ..! أحيانًا تشعرين

أنّ العالم يضيق بك حتى تشعرين بأنّه يطبق

على أنفاسك وإذ بكِ في لحظة الاختناق والشعور

بالاستسلام والرضوخ تجدين منفذا تستطيعين

الانطلاق منه .. الحمد لله ..

_ ياااه إنّك محقّة تمامًا  ..

نظرت " فاتن "  للسّاعة التي تشير للعاشرة وخمس

وأربعين دقيقة .. وبسرعة وضعت صحنها الصغير

ووقفت بارتباك قائلة :

_ لقد سرقنا الوقت .. لم أنتبه أبدًا .. اعذريني ..

وقفت نسرين قائلة :

_ لا عليك .. صحيح أنّ لدي عمل غدًا لكن

يمكنني تزجية بعض الوقت معك ..

_ أتعملين ..؟!

_ نعم أعمل محرّرة في صحيفة الضاحية ..

_ أيوجد هنا صحيفة ؟!

_ يوجد صحيفتان كبيرتان .. تتنافسان

بضراوة ..

_ لا أصدق .. ! تمزحين ؟!

_ لا مجال للمزاح هنا ..

_ لم أكن أعلم بأنّ هناك صحافة هنا ..

يبدو العمل ممتعًا ..

_ في البداية فقط لكنّك بعدها ستشعرين ببعض

الملل ..

عقدت " فاتن " حاجبيها ممازحة :

_ أووه لا تعقّدي الأمور هكذا .. مؤكد هناك

روتين ممل في أيّ عمل نمارسه بشكل يومي

لكن لا يجب أن تنكري أنّ الصحافة من أكثر

الأعمال إثارة ومتعة ..

_ أمممم حسنًا ربما ..

تحركت " فاتن " قائلة :

_ والآن اعذريني علي العودة للمنزل .. حقًا

استمتعت جدًا بهذه الدعوة الراقية ..

_  اجلسي قليلاً .. أنا لا أنام الآن ..

_ لا يمكنني ذلك .. حقًا شكرًا للطفك ..

رافقتها " نسرين " حتى باب سور الحديقة  ..  

وهناك ودّعتها حتّى رأتها تدخل من باب سور

 حديقتها  ..

                 -    2    -

      كانت " فاتن " قد ارتدت ملابس نومها 

وجلست على أريكتها بجوار النافذة وهي تحتسي

 كوبًا من الشاي الأخضر .. ابتسامتها التي تملأ 

محياها بين حين وآخر كان مايميّز هذه اللحظات ..

وكأنّها تتذكر تفاصيل اليوم وبعضًا مما دار 

بينهما ..

" لقد كان يومًا مميّزًا يستحق التدوين .."

 أغمضت عينيها بارتياح .. لقد استسلمت

لأفكارها التي غاصت لأعماق أعماق تفاصيل

" نسرين " لقد انبهرت " فاتن  " بهذه السيّدة

التي مدّت لها يدها كصديقة .. انبهرت 

من بقائها عشر سنوات تكافح من أجل أن 

تسدّ فراغ وحدتها الشبح الذي يقضّ مضجع

أيّ شخص كانت تتساءل وتحلل  : 

" ما الذي يجعل هذه السيّدة تجلس هنا

هذه المدّة الطويلة إلا أنّه ليس لها قريب

تعود إليه ؟!

معقول ..؟! أظنّ ذلك ..

قررتْ أن تعيش هنا للأبد وتموت هنا! "

نهضت " فاتن " وهي تحمل كوبها  للغرفة

المجاورة .. والتي كانت عبارة عن مكتب

صغير أنيق ومكتبة ضمّت فيها كتبًا متنوعة ..

وأريكة بثلاثة مقاعد .. وشمعدانات موزّعة

 بعناية جلست على مكتبها وفتحت دفترًا

صغيرًا وبدأت تدوّن التاريخ واليوم .. كانت

 تكتب .. وأفكارها تتسارع .. :

" ومع ذلك إنّها سيّدة تستحق الاحترام

والتقدير .. لقد حاولت أن تتكيّف وتتأقلم لتبدأ

حياتها هنا بعقد صداقة قويّة .. ورغم صدمتها

ها هي تحاول من جديد البدء من الصفر ..

لو لم تكن إلا هذه الصّفة فيها فهي تستحقّ

من أجلها أن تكون صديقة رائعة .. "

توقفت " فاتن " وهي تنظر للنّافذة حيث المنزل

المجاور من النّاحية الأخرى ..أخذت نفسًا

عميقًا .. وعادت أفكارها تزاحمها .. ولكنّها 

توقفت قليلاً .. لقد لاحظت بأنّها لم تتحدّث 

عن نفسها كثيرًا .. كلّ ماطرحته هو أشياء

عامة لقد كانتا مستسلمتان لحيث يأخذهما 

الحوار .. حتى أنّ نسرين  لم تسألها عن 

أيّ شيء يخصّها ..شردت قليلاً :

" هل سأقرر العيش مثلها ..؟!

أم أنّي سأغادر هذه الضاحيّة مرّة أخرى

 للأبد .."

اقتربت من النّافذة وبدأت تتأمّل المنزل المجاور ..

كانت النّافذة المضيئة في الطابق الأرضي ..

استطاعت أن تلمح سيدتين تجيئان وتذهبان ..

" هل تقيمان حفلة ؟! ربما .. يبدو الأمر

ممتعًا هنا فعلاً .. ليس كما ظننته .."

عقدت حاجبيها حين لمحت طفلة صغيرة تتحرّك

بجانبهما لفتها المنظر .. ثمّ ابتسمت .. لكنّها 

لم تلبث أن عادت لتجلس على مكتبها من 

جديد لتعاود الكتابة  ..

بحلول السّاعة الثانية عشر كانت " فاتن "

تستلقي على سريرها بعد أن قررت  :

" أعتقد بأنّي سأبدأ بمدّ حبال من الصداقة

أربطها بخيوطها التي مدّتها لتشتدّ وتكون

صداقة لا تهزّها الرياح  .. " !

حينها أطفأت مصباح الطاولة الذي بجانب

 السرير لتغرق الغرفة في ظلام  دامس ..

         .. يـــتــبـــع ..

                  

                      الكاتبة

                  حنان الغامدي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أعـــزائي الكــرام ...

حتى تستطيعوا التعليق يمكنكم اختيـــار

التعليق بـاسـم :URL الاســــم / العنوان

أشــــــــرف بقـــــــراءة تعـــليقـــاتكـــم ...

فـــرأيكــــم محـــــــطّ اهـــتمـــــــامي ....

<<
<<
<<