الخميس، 10 سبتمبر 2020

♨.. يومًا ما .. 8 ..♨

 

سلسلة ..


-   8   -  

درب انـتـمــــــــاء ..!



                  -    1    -

_ أنا آسفة سيدتي .. حقًا أعذريني ..

نطقت نارين بهذه العبارة وهي تقدّم كأس الماء

لـ" فاتن " التي انهارت بعد أن تفاجأت بوجودها

والتي استطردت بعد أن أخذت منها الماء :

_ لم أقصد إخافتك .. كان علي أن ألقي التحية

عليك أولا ..

شربت فاتن الماء وبعد أن أخذت نفسًا عميقًا

وهدأت قالت :

_ كيف أتيت هنا .. ؟!

_ آسفة سيدتي .. ولكن أبلغتني السيّدة نور في

وقت متأخر  بأنّ علي التوجه إليك.. خصوصًا

أنّه لم يتم التنسيق بعد لحضوري عندك .. فالجدول

لم يتم ترتيبه بعد ..  لذا حضرت الساعة الخامسة

عصرًا وحين دخلتُ كنتِ قد غادرتِ مع السيّدة

آمال ..

مسحت بيدها على وجهها .. واسترخت ثم قالت:

_ أعني كيف دخلتِ إلى المنزل والمفتاح معي ؟

_ عذرًا سيدتي يبدو أنّك نسيت بأنك حين قدمت

إلى هنا كنتُ في استقبالك ..

وكأنّ فاتن انتبهت للأمر بينما استطردت نارين :

_لكن حتى أوضح  لك الأمر أكثر حين تعمل منّا

العاملة ويتم تحديد من تعمل لديها يتم تزويدها

بمفتاح الباب الخلفي للمنزل ..

_ حقًا ..! غريب ..

_ نعم سيدتي .. قد يكون الأمر غريبًا لم يكن

هذا النظام ساريًا في بداية الأمر لكنّه اُستُحدِث

لأسباب كثيرة .. وبعد حدوث الكثير من الأمور ..

_ هكذا إذن ..!

_ هل أنتِ بخير سيدتي ؟!

_ أجل ، شكرًا لك ..

_ هل تريدين مني أن أعدّ العشاء ..؟

_ لا ، لا رغبة لي بأي شيء حاليًا !

_ حسنًا بإمكانك مناداتي حالما تحتاجين لشيء ..

استدارت نارين لتتجه لغرفتها الصغيرة الكائنة 

بقرب المطبخ إلا أنّ فاتن استوقفتها قائلة :

_ قلتِ بأنّ الذين يتم تحديد وجهة العمل لهم يتم

تزويدهم بمفاتيح المنزل ..

_ نعم ، سيدتي إذا لم تكوني ترغبين بأن أعمل ..

لكنّ فاتن قاطعتها :

_ أنا سعيدة حقًا بوجودك .. سعيدة أني التقيتك

حقًا .. ظننتُ بأنّي لن أراك ثانية .. خصوصًا بعد

ذلك الموقف السخيف الذي بدر مني ..

_ لا تقلقي سيدتي .. لن أحمل تجاهك أيّ موقف

لو طلبت ذلك .. أعني استبدالي ..

_ بل على العكس .. حتى لو لم تطلبي العمل لدي

فلقد قررتُ المجيئ إليك وتوضيح الأمر ..

_ لسنا نحن من يختار المكان الذي نرغب

العمل فيه  .. بل إدارة التنظيم ..

_ أيًا يكن الأمر .. فأنا سعيدة أنك هنا ..

ابتسمت نارين ثم قالت :

_ شكرًا لك سيدتي ..

_ أريد أن أعتذر لك عمّا بدر مني ذلك

اليوم .. كنتُ فظيعة جدًا ..!

_ لا عليك سيدتي .. أنا لا أحمل همومي

للأماكن التي أرتادها .. بمجرّد أن أخرج

فإني أنسى .. أو أتناسى الأمر .. هذا ما

يحتّمه عليّ عملي ..

ابتسمت نارين ابتسامة تمتلئ تقديرًا لـ فاتن

ثم أكملت :

_ وشكرًا لاهتمامك بمشاعري .. نادرًا ما تعتذر

السيّدات هنا ..

نظرت فاتن لها بتأثر وتقدير وانهارت باكية

متجهة لغرفتها بعد أن عجزت عن أن تتمالك 

نفسها وسط دهشة نارين التي كانت تنظر 

حائرة ..


             -    2    -

 كانت نارين تتأمّل صورة في يدها وهي مستلقية

على سريرها .. ابتسمت وهي تتأمّل ملامح تلك

الطفلة المبتسمة والتي تلامست أصابع يديها

لترسم قلبًا ..

ورغم ظلام الغرفة إلا من نور القمر الذي

يتسلل من النّافذة المتوسطة الحجم  كانت نارين

تنظر للصورة بتمعّن وكأنّها تراها للمرة الأولى ..

 تنهدت بحسرة وزمت شفتيها بامتعاض وهي تضع

 الصورة داخل درج الطاولة الملاصقة للسرير ..

انقلبت للجهة الأخرى وأغمضت عينيها ..

الهدوء الشديد جعلها تسترخي ..

لكنّها ما لبثت أن فتحت عينيها بعد أن سمعت

صوت باب يغلق ..

نهضت بسرعة ومشت بحذر .. وجدت الباب

مغلقًا .. نظرت للسلم المؤدي للطابق الثاني ..

اقتربت من النّافذة لترى .. وكانت صدمتها ..

وضعت يدها على فمها مندهشة ..

لم تكن تصدق عينيها .. وبسرعة اتجهت

لغرفة المعيشة حتى تستطيع رؤيتها بشكل

أفضل .. رأت فاتن وهي تتوارى  خلف السور

والأشجار .. حاولت فتح النافذة لكنّها توقفت

إذ خافت أن تثير الانتباه .. فالهدوء شديد ..

تراجعت واكتفت بالانتظار بقلق .. التفتت

للسّاعة التي تشير إلى العاشرة والنّصف ..

" هل يعقل ..؟ أين يمكن أن تخرج ..؟

مستحيل ..!

صعدت بسرعة للطابق الثاني لتتأكد مما رأت ..

 أدارات مقبض باب غرفة نومها .. ولمّا رأت

غرفتها خالية .. وملابس النوم ملقاة على السرير

أغلقت الباب ونزلت للطابق الأول ..

دخلت المطبخ .. وجلست على كرسي طاولة

الطعام ..

" يا ترى أين ذهبت هذه السيّدة المجنونة ..؟!

لا أصدق ما رأيت  .. "

ابتسمت بسخرية وتعجب .. غير أنَها لم تلبث

أن عادت لغرفتها بعد مرور خمس دقائق .. لقد

ارتأت أنّه من الأفضل لها أن تنتظرها هناك .. تمددت

على السرير .. وأفكارها لا تهدأ ..

لم تمض خمس  دقائق أخرى  .. حتى سمعت الباب

الرئيس يُفتَح ويغلق .. نهضت بسرعة ورغم أنّ غلقه

وفتحه كان بهدوء وحذر إلا أنّها استطاعت سماعه

بوضوح .. خرجت من غرفتها متسللة ..  

لمحت  فاتن وهي تحمل حذاءها في يديها صاعدة من

الدرج خشية أن تصدر صوتًا أثناء صعودها ..

إلى أن سمعت أخيرًا صوت باب الطابق العلوي

يغلق ..

" أين كانت ؟! لقد عادت بسرعة ؟! حتى أنّها لم

 تتجاوز العشر دقائق "

كانت نارين متعجبّة للغاية ..

 

        -    3    -

كانت نارين متجهة نحو المطبخ لتعدّ الفطور حين رأت 

الباب الرئيس مفتوحًا .. اقتربت بهدوء لتنظر فإذا بفاتن

 تصطدم بها داخلة للمنزل :

_ أوووه نارين ..!!

نظرت لها نارين وفي عينيها علامات الاستفهام عندها

ابتسمت فاتن قائلة :

_ فكرت برؤية الحديقة صباحًا .. والاطّلاع على الأجواء ..

نظرت نارين غير مقتنعة في حين أكملت فاتن :

_ اعتقدت أنّه بإمكاني تناول الفطور لكن للأسف الأجواء

لا تساعد ..

لكنّ نارين فاجأتها :

_ غريب أن تتناول أولئك السيدات الفطور في مثل

هذه الأجواء   !

التفتت فاتن مندهشة لبعض السيدات اللاتي كن

يجلسن في حدائقهنّ .. لكنّها قالت :

_ فعلاً غريب ..! أنا لم ترقني الأجواء ..

قالت ذلك وهي تضع يدها على جيب سترة قميصها

وعادت لتصعد لغرفتها لكنّ نارين قالت لها :

_ ألا ترغبين بتناول الفطور الآن ..؟!

_ أجل ، هلا أحضرته لمكتبي  ..؟!

ردت نارين متعجبة بعد أن لمحت شيئًا متكوّمًا

في جيب سترتها :

_ حاضر ..!

تابعت فاتن سيرها لغرفة مكتبها وما إن وصلت

حتى أقفلت الباب بسرعة وأخرجت الظرف بلهفة

وقامت بفتحه :

_ فقط ورقة ..!

" قرأت رسالتك .. وسعيدة لثقتك بي ..

والحقيقة أنّي ابتسمت من تفاصيل الرسالة .."

كانت عيناها تلتهمان الرسالة .. التي انتهت سريعًا ..

" هـذا رأيي .. وأعتقد أنّه الصواب ..

                      صديقتك المخلصة ..

                          نسرين "

 عقدت فاتن حاجبيها مستاءة :

_ أعتذر ! هل هي جادة  ؟! بعد  سبع ورقات

من الشرح والتفاصيل ترسل ورقة واحدة فقط

وتطلب منّي فيها الاعتذار  .. لا أصدّق ..!

ألقت الورقة بخيبة أمل على الأريكة  ..

اقتربت من النّافذة في محاولة منها لتهدئة

نفسها .. وفتحتها .. لفت نظرها الطفلة

التي كانت تجلس خلف النافذة المفتوحة

في الطابق الأول والتي التفتت تنظر لفاتن

بمجرد أن سمعت صوت النافذة يُفتح ..

لوّحت الطفلة ببراءة لفاتن وهي تبتسم  ..

بادلتها فاتن الابتسامة والتلويح  وهي تقول لها :

_ صباح الخير كيف حالك ..؟!

ردّت الطفلة بحماس  :

_ بخير ...

وأرسلت لها قبلة في الهواء ..

ابتسمت فاتن بتعجّب وبادلتها القبلة ..

وما إن همّت بالتحدّث إليها مرّة أخرى حتى قطع تلك

 اللحظة نارين وهي تطرق الباب داخلة .. التفتت فاتن

وتحرّكت بسرعة ملتقطة الرسالة لتضعها في درج  

مكتبها  .. وضعت نارين طعام الفطور على الطاولة

بجانب الأريكة .. وهي تتأمّل النافذة المفتوحة ..

شكرتها فاتن واتجهت للنّافذة مرّة أخرى

لكنّها فوجئت .. بأنّ النافذة التي كانت تطلّ منها

الطفلة قد أقفلت وتمّ إسدال الستائر ..

_ غريب ..! بهذه السرعة ..!

تساءلت نارين :

_ عذرًا سيدتي هل قلتِ شيئًا ..؟!

أقفلت فاتن النّافذة ثم قالت بابتسامة :

_ لا ،لا شيء مهم .. لكن لطالما اعتقدتُ أنّ

 الأطفال يحسّنون المزاج حقًا .. فابتسامة

طفل لك تجعلك تبتسم مهما كنت منزعجًا ..

نظرت نارين لها بدهشة لكنّ فاتن أكملت حديثها :

_ ألا تتفقين معي نارين ..؟!

_ لا أظنّ سيدتي ..! الأطفال بريئون نعم ، لكنّهم

لا يحسّنون المزاج مطلقًا ..

_ هل يُعقل أنّك لا تبتسمين حين ترين طفلاً يبادرك

بابتسامة عفوية جميلة ؟!

تجهّم وجه نارين وهي تقول :

_ ربما يا سيدتي أبكي بدلاً من أن أبادله ابتسامة ..

نظرة طفل قد تعيد لك شريط ذكريات لا ترغبين

في استعادة جزء منه ..  الحمد لله أنني لا أراهم 

هنا .. اسمحي لي !

صمتت فاتن أمام خروج نارين بعد أن صدمتها ..

 فقد اندهشت من إجابتها ومشاعرها الغريبة 

لا تبدو سيّدة قاسية رغم تجهّم ملامحها على

الدوام إذ تمتلك ابتسامة ساحرة حين تبتسم ..

وقلبًا صادقًا حين تتحدّث .. !!


                   -   4   -

كانت السيّارة تسير نحو وجهتها المحددة

الصمت يخيّم على الأجواء فمنذ أن ركبت

فاتن وتبادلت التحيّة مع السيّدة آمال وهي تحاول

أن تفتح موضوعًا للنّقاش إلا أنّ السيّدة

آمال منشغلة بكتاب بين يديها .. ولا تجيب إلا

بإجابات مقتضبة ..

وصلتا لوجهتهما كان المكان تقريبًا جبليًا ومرتفعًا ..  

كما لو كانوا قد خرجوا من الضاحية ..!

انبهرت  فاتن من الطريق الذي كان يمتلئ  بالأشجار

والمساحات الخضراء الواسعة ..

" يا ترى أين نحن ذاهبون .."

رمقت السيدة آمال ثم عادت تفكّر ..

" هل خرجنا من الضاحية .. ؟! آخ لو كانت الأمور

جيدة مع هذه السيّدة ..كنت عرفت على الأقل ما هذا

المكان .. يبدو أشبه بغابة .."

وصلوا إلى سور كبير .. وهناك توقفت السيارة ..

وحين نزلت السيّدة آمال من السيارة كانت هذه إشارة

إلى أن تتبعها .. شعرت فاتن بالغيظ من تجاهلها  

وتمنّت لو اعتذرت عن الذهاب معها اليوم وتأجيل

الجولة ليوم آخر ..!

"ما أسوأ الظرو ف حين تجبرك على الخروج مع

شخص بينك وبينه سوء فهم ..!"

هكذا حدّثت نفسها .. ولكنّها حين دخلت المكان

كان أشبه بمزرعة كبيرة .. في وسطها يقع مبنى

يتكوّن من طابقين .. الأسوار الخشبية التي

تحيط ببعض المساحات والنباتات تدلّ على أنّ

هناك عناية خاصّة بهذا المكان ..

لم تنتبه لأيّ لافتة عند الباب الخارجي المقترن

بالسور .. لكنّها أخيرًا وجدت لافتة على رأس

البناية المتجهات لها " مزرعة السيّدة فخر "

لفتها الاسم كثيرًا ..

عند باب المبنى استقبلتهما إحدى السيّدات ورحبت

بهما ورافقتهما لغرفة المديرة التي تنتظرهما ..

بدا المكان أنيقًا مميزًا بالنوافذ الزجاجية الكبيرة ..

والشتلات الصغيرة تزين الردهات .. إضافة إلى هذا

 الجمال الذي يبعث على الراحة  كانت السيّدات ترتدين

زيّا خاصًا .. ويعملن على مكاتبهن .. وأثناء سيرهنّ

في ممرّ الطابق الثاني ومن خلال النوافذ الواسعة

التي تطلّ على المكان  استوقفها المنظر حيث الجبال

والأشجار .. كان المكان الذي وصلوا إليه خارج

الضاحية حقًا .. إذ بدا وسط الكثير من الأشجار

الكثيفة .. لفتها عمل السيّدات في البساتين المسوّرة

 الصغيرة  .. أصدرت السيّدة آمال صوتًا خفيفًا

لتلفت انتباه فاتن التي سرعان ما استجابت ودخلتا

لغرفة كُتِب على بابها  "المديرة "..

كانت غرفة المديرة غاية في الجمال مزيّنة بالزهور

والنباتات .. والمكتب الأنيق والأريكة المخملية الحمراء

والتحف الغريبة .. وطبعًا النافذة الواسعة التي تطلّ

على البساتين من الجهة الأمامية حيث الباب الرئيس

للمزرعة ..

 حين رأت فاتن تلك السيّدة  التي تنتظرهما رأتها

أنيقة جدًا رغم كبر سنّها إذ تبدو على أعتاب السبعين

 لكنّها رغم تجاعيدها تبدو جميلة ومشرقة .. وبمجرّد

 أن رأت السيّدة آمال رحبت بها قائلة :

_ أهلا بمن لا أراها إلا في حفلات الضاحية ..

ضحكت السيّدة آمال وهي تحضنها في حين أكملت

معاتبة :

_ لم أرك منذ حفل السيّدة إشراق .. !

ردّت السيدة آمال :

_ معك حق ، مشاغل الدنيا ..!

_ لا أصدق أنّنا في مدينة واحدة ولا نرى بعضنا إلا

كلّ شهرين أو ثلاثة ..!

تنهدت السيدة آمال قائلة :

_ إننا مقصّرون تجاه بعضنا في الآونة الأخيرة .. علينا

أن نفكّر بجديّة في لقاء شهري لنا ..

_ أنتِ محقّة .. يااه ذكرتني بتلك الأيام ..

ثم التفتت إلى فاتن التي كانت ترتدي تنورة فستقية

قصيرة لمنتصف الساق وقميصًا من الشيفون السكري

شدّته بحزام  بني متناسق مع حذاء ذو رقبة مرتفعة

حتى نصف ساقها كانت متألقة جدًا ..  

_ أهلاً بالنزيلة الجديدة .. إنك تذكريني بنفسي ..

_ تشرّفت بمعرفتك .. أدعى فاتن ..

_ تسعدني معرفتك بحق .. معك  فخر ..

_ اسمك جدًا جميل و ملفت  ..

_ حقًا ؟! شكرًا لرقيك ..

أمسكت السيّدة فخر بيد فاتن وهي تنظر للسيدة آمال :

_ يا للإشراق والحيويّة ..

ردّت السيدة آمال مفاجئة فاتن :

_ المظهر ليس كلّ شيء ..!

ابتسمت السيّدة فخر وهي تنظر لآمال بعتب وتحدّث فاتن :

_ لا عليك من آمال .. إنّها عملية جدًا .. إنّما أنا

أراك منطلقة ومتفائلة وأنيقة أيضًا ..

أخذت بيد فاتن وسحبتها لتنقلها أمام النافذة قائلة :

_لا تتضايقي من  آمال وطريقتها وجديتها في

الأمور ..  

وأشارت بيدها للمساحات الخضراء المسوّرة وهي

تستطرد :

_انظري .. هذا شغفي .. قد يبدو غريبًا بعض الشيء

لكنّي أحببته ومازلت أحب كوني مزارعة ..

كانت فاتن مندهشة وهي تستمع لكلام السيدة فخر

المستمرّة بالحديث  :

_حين بدأتُ بطرح أفكاري على السيّدات لم أجد

داعمًا لي بل سخر بعضهنّ  منّي حتى السيّدة إشراق

رفضت الأمر لكنّي لم أستسلم لأنّي أعشق النباتات

والاهتمام بها .. وبدأت وحدي  ورويدًا رويدًا وجدت

من يدعمني من السيدات ويرغب  بمساعدتي ..

استغرق الأمر سنوات حتى أحقق ما أرغب به ..

ردت السيّدة آمال على كلامها :

_ ولكنّ الأمر الآن مختلف .. كنّا في البداية .. وكان

الأمر يتطلب الكثير من الأمور ..

_ كلاّ كلّ جيل له اهتماماته ومتطلباته ورغباته ..

فالأساس موجود ولكنّ الدماء الجديدة تصنع رونقًا

مثيرًا وتحيي المكان الذي تسكنه الرتابة والملل ..

الأعمال الجديدة معظمها قائمة على الأعمال القديمة

الأصيلة كلّ ما هنالك هو أنّ عجلة التطور غيّرت الشكل

أمّا المضمون فهو موجود في كلّ شيء حديث ..

شاركتها فاتن قائلة بحماس :

_ أنت محقّة  .. أتفق معك وبشدّة .. فلكلّ

عصر متطلباته الخاصّة التي يقوم بها الجيل  ..

نظرت السيّدة فخر لها بإعجاب :

_ أنت تعجبيني .. تشبثي بقناعاتك طالما

أنّك تسيرين في الطريق الصحيح .. هذا

أهم شيء .. الطريق الصحيح ..اتبعي شغفك ..

في تلك اللحظة قالت السيّدة آمال :

_ سيسرقنا الحديث وإذا استسلمنا له فإنّنا

لن نصل لبيوتنا إلا بعد صلاة العشاء ..

ضحكت السيّدة فخر :

_ لا فائدة ..!

ثم قامت بواجب الضيافة .. إلا أنّ فاتن قررت

أن تكتفي بتمرة واحدة و شرب القهوة وهي تسير

مع المرافقة التي ستريها المزرعة حتى تختصر

الوقت ..

ورغم قناعتها بأنّها لا تحب من النباتات إلا الزهور

شأنها في ذلك شأن أغلب السيّدات فهي لا تتخيّل

نفسها تزرع وتهتم بمثل هذه التفاصيل الشاقة

والمرهقة .. إلا أنها الخطّة التي يجب اتباعها ومع

 ذلك استمتعت وهي تتجوّل بين أروقة ذلك المكان  

فقد اكتشفت أنّهنّ سيّدات يهوين الزراعة ويبعن من

إنتاجهنّ .. كانت كلّ واحدة تتحدّث بحب عن إنتاجها

وعن متعة العمل مع السيّدة فخر التي ليست كما تبدو

لأوّل وهلة إذ رغم لطفها ومرحها وانطلاقتها للحياة

 إلا أنّها صارمة في العمل وشديدة ولكنّهن أجمعن أنّها

تقدّرهنّ وتحترمهنّ رغم صرامتها  .. وعرفت منهنّ 

قصّة السيّدة فخر واهتمامها بالزراعة وحبها للنباتات .. 

وهنّ يشاركنها هذا الشغف ..

كان كلّ ما رأته وسمعته مذهلاً جدًا إذ لم تتخيّل ذلك !

انتهت الجولة بسرعة في نظر فاتن التي استمتعت

بوقتها للغاية في المكان رغم مرور ساعة ونصف ..

التقت بالسيّدة آمال عند الباب الرئيس ..

حيث تقف السيارة التي تحركت بهما من جديد لتنطلق

لوجهتها الثانية ..


              -    5    -

مازال الصمت مهيمنًا على أجوائهما ..

_ المكان جميل ورائع ..

كانت السيّدة آمال تتصفح الكتاب حين ردت

على فاتن :

_ هذا جيّد !

ولم تزد حرفًا واحدًا على ذلك ..

التفتت فاتن تنظر للمنازل والسيّدات العابرات

" الوحدة - س  .. هل هنا مصنع  أم ماذا ؟!

لم أعد أستغرب إنّها فعلاً مدينة قائمة بذاتها ..

هل من الممكن أننّا الآن نتجه للصحافة ..؟! "

وبينما فاتن تسبح بأفكارها بعيدًا توقفت السيّارة

عند مبنى مكوّن من ثلاثة طوابق .. مختلف في

لونه عن بقية المباني الموجودة في السكن ..

انتهتا من الجولة في المكان الذي عرفت بأنّه

مركز لمساعدة السيّدات المسنّات في الضاحية

أقيم قبل عشر سنوات تقريبًا .. كان المبنى

من الداخل جميلاً وأنيقًا مديرة هذا المبنى سيدة

في الخمسين من العمر .. بدت منظمة ورائعة  

ولديها أفكار جدًا جميلة .. ارتاحت فاتن لهذا

المكان .. شعرت برغبة شديدة في الانتساب

لهنّ .. والعمل معهنّ .. فمنظومة العمل سيّدات

في مثل عمرها وبَدَون قريبات منها ..

كانتا  قد خرجتا من المركز بعد المغرب بنصف

ساعة .. دخلتا السيارة في هدوء ..

وما إن ابتعدت السيارة عن المركز حتى التفتت

فاتن للسيّدة آمال وهي تقول :

_ عمل نبيل للغاية .. عمل مثير بحقّ ..

سيّدة آمال أريد أن أعرف أكثر عن هذا المركز ..

التفتت السيدة آمال لها باهتمام :

_ هل أنت جادة .. ؟

_ أجل .. لكنّي سأقرر أكثر بعد أن ننتهي من

جميع جولاتنا ..

_ إذن يمكنك أن تقرري .. فهذه آخر جولة لنا ..

وكانت المحطّة الأخيرة في ذلك المركز ..

تفاجأت فاتن وقالت بتعجب :

_ حقًا ..! هل هذه هي الأعمال هنا ..؟!

أعني هل هذا كلّ شيء ..؟!

ردّت السيدة آمال بهدوء :

_ لا طبعًا ..!

_ لستُ أفهم ..إذن لماذا هذه آخر جولة مادام

هناك الكثير من مجالات العمل ..

_ إننا نعتمد في جولاتنا على الأعمال المتاحة ..

_ هل تعنين بأنّه فقط هذه هي الأعمال المتاحة

في جميع الوحدات السكنية هنا ..؟

_ بالطيع لا ..!

_ إذن لماذا نتوقف هنا ..؟!

نظرت لها السيّدة آمال وتنهدت بعمق وهي تردد

 السؤال :

_ لماذا نتوقف هنا ..؟!

حسنًا حسب اللوائح والأنظمة في الضاحية لا يحق لك

الاطلاع إلا على الأعمال القريبة من وحدتك السكنية

وإذا لم يتواجد مهام شاغرة حينها ننطلق لبقية المهام

في بقية الوحدات .. وبالمناسبة جولتنا فقط كانت 

للمراكز التي أرسلت لنا قائمة احتياج موظفات بها  ..

كانت فاتن مصابة بدهشة عقدت لسانها إلا أنّ

السيّدة آمال تابعت :

_ من الصعب أن آخذك في جولة لكل المؤسسات هنا

الأمر غير منطقي  ..

_ إذن لا يحق لي العمل بعيدًا عن الوحدة السكنية

التي أسكن فيها ..؟

_ ليس هذا ما قلته لك بالضبط .. ما قلته هو أنّ

الأولويات عندنا هي التي يُنظر لها أولاً ..

رانت فترة صمت قصيرة بعدها تحدثت فاتن :

_ حسنًا أظن بأنّني فهمت ..!

وبعد قليل من التردد :

_ هل لي أن أسألك ..؟!

_  تفضلي ..

_ يوم أمس .. أعني المكان الذي يتواجد فيه

مركز الأنشطة والحفلات ..

قاطعتها السيّدة آمال :

_ هل تريدين العمل هناك ..؟!

ردّت بانفعال وانزعاج  :

_ لا ، بالطبع لا .. لم أقصد ذلك ..

ثمّ تابعت بسرعة :

_إنّما أعني ما اسم هذه الوحدة السكنية ..؟!

تأملت السيدة آمال فاتن ثم قالت باقتضاب  :

_ الوحدة  ( أ ) .. هل هناك سؤال آخر ..؟

_ نعم ..

_ تفضلي ..!

وبصعوبة وبتردد :

_ هل .. هل هناك عمل يتعلق بالكتابة ؟!

_ الكتابة ..!

_ أجل ، أرغب بعمل يتعلّق بالكتابة ..!

_ لكن حسب ما أذكر بأنّك لا تكتبين ..وليس

لديك شغف الكتابة !

_ صحيح لكنّي لستُ سيئة .. من الممكن أن

أبدع في هذا المجال أكثر من أيّ مجال

آخر ..

_ وماذا عن مركز مساعدة المسنّات ..؟!

_ لا ، سأجعله الخيار الثاني .. مادام العمل المتعلق

بالكتابة متاحًا ..!

_ تذكري أنّك ترغبين العمل بالكتابة ..

_ نعم ، مهما كانت المسافة .. لكن الكتابة الإبداعية .. 

لا أريد أن أكون كاتبة وظيفية .. أعني لا أحب كتابة

 الخطابات الرسمية .. لا أجيدها ..  

_ آه فهمت .. سأنظر إذن في الأمر من كلّ النواحي ..

تنهدت بارتياح  ثم قالت للسيّدة آمال :

_ شكرًا لك سيدة آمال .. أنا حقًا أعتذر

منك لما بدر مني يوم أمس .. كنت فظة

للغاية .. لست أدري كيف فقدت السيطرة

على نفسي .. لكنّي أعدك أن أحاول جهدي

في أن أضبط انفعالاتي  ..

قالت السيدة آمال بحزم :

_ يا إلهي ..! بمجرّد أن أتذكر .. كان كلامًا خارجًا

عن حدّ الاحترام .. لسنا عالمًا مثاليًا .. لكنّ الاحترام

جزء من هذا المكان ..

حينها ردّت  فاتن وهي تحاول أن تكبح جماح غضبها

بعد أن أخذت نفسًا عميقًا :

_ حسنًا سيّدة آمال .. لا أريد أن أناقش مسألة الاحترام

لأنّ طريقة تلك السيّدة كانت سيئة !

_ هل ستعودين للنقاش في هذا الأمر ؟!

_ إن تمكنت من ذلك سأفعل ! لكن مع الشخص

المعني بالأمر ..

_ هكذا !

_ سيّدة آمال أنا أعتذر لأني كنت فظة معك ..

أنت لم يكن لك ذنب أن تري هذا الجانب مني ..

أعترف أني كنت سيئة في تعاملي مع الأمر ..

لكنّي لم أكن مخطئة بحقّ تلك السيّدة .. إنّها

الحقيقة ..!

نظرت لها السيدة آمال مليًا ثم قالت :

_ حسنا .. لا مزيد من النقاش الآن ..

كانت السياّرة قد توقفت عند منزل فاتن  في

حين تابعت السيّدة آمال :

_  قد وصلتِ لمنزلك ..ثم أنّ لدي موعد هام ..

بالمناسبة يوم الجمعة تستطيعين الانطلاق

كيفما شئت ..

_ حقًا ..!

_ انتهت جولتنا .. ستتلقين ردًا مني الأسبوع

المقبل بشأن عملك ..

تنهدت فاتن بسرور .. وهي تقول :

_ شكرا لك سيّدة آمال على تفهمك ..

ثم ابتسمت قائلة وهي تفتح الباب :

_ تصبحين على خير .. !

_ وأنت من أهل الخير ..!

أقفلت فاتن باب السيارة  وانطلقت لمنزلها راكضة

فتحت الباب .. وهي تتحدّث كأنّها تؤدي دورًا

مسرحيًا :

_ وأخيرًا سأنطلق .. أعتقد أني بعد غدٍ سأذهب

في نزهة قصيرة  !

استدارت وألقت حقيبتها على المنضدة بقرب

الباب .. ودخلت غرفة الجلوس الصغيرة وارتمت

على الأريكة  :

_ يا للروعة .. إنّه أمر يستحقّ  الاحتفال  ..

أطلت نارين بهدوء وبقلق برأسها لتنظر لهذه

السيّدة التي تحدّث نفسها كثيرًا :

_ سيدتي ..هل ناديتني ..؟!

التفتت فاتن لها بسرور :

_ لا ، ولكن من الجيد أنّك أتيت  ..

اعتدلت في جلستها مستطردة :

_  اسمعي أريد عشاء فاخرًا .. سأقيم احتفالاً

هذه الليلة !

نظرت إليها نارين بقلق ودهشة :

_ احتفال ؟! الليلة ..؟

_ نعم  !

_ لكن هل هناك مدعوون ..؟!

_ نعم .

_ حقًا ..! من ..؟ أعني كم عدد الأشخاص

 يا سيّدتي ؟!

_ شخص واحد مدعو لهذه الحفلة !

_سيّدتي ربما أكون متطفلة لكن ما مناسبة

هذا الاحتفال!

_ وأخيرًا انتهت جولتنا .. أصبحت حرة وسأنطلق

بعد غد في أول جولة لي !

ابتسمت نارين رغم أنّها ماتزال قلقة بشأن هذه

السيّدة الجريئة لكنّها قالت :

_ حسنًا ..استعدي سيدتي .. الساعة التاسعة

سيكون كلّ شيء جاهز !

خرجت نارين تاركة فاتن بين أفكارها ..

" أعتقد بأنّي سأنضم للصحافة قريبًا .. ستكون

مفاجأة لنسرين .. لن أخبرها .. سأفاجئها في مقرّ

العمل .."

غدًا تبدأ الإجازة .. وأظن أنّ عليّ أن أدعو

صديقتي لتشرح لي بعض الأمور ..!

كانت فاتن سعيدة بانتهاء المرحلة الأولى في هذه

 المدينة .. فهي حتى الآن تشعر بمشاعر متناقضة

تجاه المكان الذي اختارته لتبقى فيه سنوات من

عمرها .. ورغم أنّ المشاعر السلبية هي التي طغت

خلال الأسبوع الأول لها في هذه المدينة .. إلاّ أنّها

ستبدأ على الأقل الحياة كمواطنة في هذه الضاحية ..

وهذا يجعلها ترسم أول خط ّ ودربٍ للانتماء لهذا

المكان ..!

                     .. يــتـــبـــــــع ..

                               الكاتبة

                           حنان الغامدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أعـــزائي الكــرام ...

حتى تستطيعوا التعليق يمكنكم اختيـــار

التعليق بـاسـم :URL الاســــم / العنوان

أشــــــــرف بقـــــــراءة تعـــليقـــاتكـــم ...

فـــرأيكــــم محـــــــطّ اهـــتمـــــــامي ....

<<
<<
<<