الخميس، 18 يونيو 2020

.. على ذات الطريق ! ..




      
                              1   )

          في صباح يوم ما وفي إحدى القرى الواقعة في غرب 
تلك المدينة استيقظ سكانها كعادتهم للذهاب للعمل .. كان الجوّ 
مشمسًا ومشرقًا ونسمات الربيع تُراقص أوراق الشجر الممتدّ 
على طول الطريق الذي يسلكه ذلك الرجل حين لمح شيئًا ممتدًا 
على الطريق .. ولما اقترب بعربته أوقفها جانبًا بقلق .. 
كان واضحًا أنه رجل ممدّد .. وأثناء سيره ومع كلّ خطوة كانت
 تساؤلاته تنهمر عليه :
" من يكون هذا المسكين ..؟! هل يعرفه  ؟! هل هو جاره الذي
سألت عنه زوجته في ساعة متأخرة من الليل ؟!
أم هو أحد أصدقائه الذين لم يرهم منذ فترة وانشغل عن
السؤال عنهم بمشاغل الحياة ؟!"
إنّهم يعيشون في قرية والجميع يعرف بعضهم ومع ذلك قد  
لا يرون بعضهم لأيام ..
وصل والخوف والقلق يسيطران عليه وما إن رآه حتّى استرخى
وتنفس الصُّعداء .. إنّه ليس رجلاً من القرية التي يسكنها ..
هل هو رجل من القرية المجاورة ؟ ربما ..! "
نظر إليه متأمّلاً فقد كان واضحًا بأنّ الرجل فارق الحياة ..
نهض على عجل بعد أن تلفت يمنة ويسرة .. وعاد لسيارته
 بسرعة متجهًا لعمله !
مرّت ساعة .. ساعتان .. خمس ساعات ..
 كان المارّة يتفرّسون تلك الجثة المرميّة على  الطريق ..
ويتابعون سيرهم .. وكأنّ شيئًا لا يعنيهم !
عاد صاحبنا من عمله مساء وفوجئ بالجثّة ما تزال ملقاة
على الطريق !
كان مندهشًا وهو يحدّث نفسه : " معقول بأنّه لا يوجد أيّ
شخص قام ببلاغ ..! ألم يره أحد من قريته وتعرّف عليه؟! "
هذه الطريق تجمع القرى الأربعة التي تنضم تحت جناح المدينة 
من جانبها الغربي ..
" يا للوحشية ! كلّ هذا الوقت وهذه الجثة هنا .. ألم يفتقده
أهله ..؟ أحد معارفه ..؟ "
ولكنّه لم يكد يستوعب صدمته حتى فوجئ برجل أمن يقف
أمام نافذة سيارته المتوقفة :
_ عذرا هل أنت من قام بالبلاغ ..؟
رد صاحبنا بارتباك :
_ كلا ، ولكني توقفت للتو ..
_ لقد تلاقينا بلاغًا من مجهول يفيد بوجود جثّة على قارعة
الطريق هنا !
_ أوووه .. هذا مؤسف بحقّ ..
قاطعهما رجل آخر : " أنا من قام بالبلاغ " .
قال له رجل الأمن  :
_ هل تعرفه ..؟
رد عليه الرجل وهما يمضيان باتجاه الجثةّ :
_ نعم .. إنه ..

       عاد صاحبنا لبيته يقصّ على زوجته بأنّ الشرطة ستبدأ 
التحقيق غدًا في القرية والقرى المجاورة ..
خلال أسبوع كان النّاس في القرية يتحدثون عن رجل من القرية 
المجاورة لقي حتفه خنقًا وتم رميه على قارعة الطريق الرئيس
 الذي يجمع القرى الأربعة حيث أنّهم ينطلقون منه للمدينة وبقي 
ليوم كامل ممدّدًا على الطريق!
لم تقف هذه الحادثة المخيفة عند أهالي القرية والقرىالمجاورة بل 
تناولت الصحف الخبر بعناوين عدّة :
* الإنسانية في طريقها للانقراض ..!
* هل نحن حقًا بشر ..؟!
* قيمنا في خطر .. !
وتحدّثت برامج الصباح والمساء لمدّة أسبوع عن الحادثة ..
أما في تلك القرية فقد كانوا يعلقون في ثنايا حديثهم عن هذه
الحادثة المؤسفة :
_  الحمد لله أنّ أحدًا من أهل القرية لم يصب بسوء ..
_  أراهن بأنّ الذين يتحدثون عن الإنسانية إنّما يدّعونها ..
_  بالتأكيد لا أحد يريد أن يورط نفسه ..
_ إنه لأمر محزن ، ولكن هؤلاء المشاهير من المذيعين
 يدّعون بأنّهم الصفوة .. إنهم يتاجرون بمشاعر أهل
الضحية ..!
_ في المدن يحدث أسوأ من ذلك ! يا للعجب ، الآن نحن
الذين أصبحنا السيئين ..؟!
_ يقولون بأنّ القتيل رجل لديه الكثير من المشاكل ..!
لم يكن حديث القرى المجاورة يختلف كثيرًا ..
لكنّ الحديث في هذا الأمر لم يدم طويلاً  .. إذ بعد مرور ثلاثة
 أسابيع عاد أهالي القرية والقرى المجاورة يمارسون حياتهم
بشكل طبيعي .. فالأمر لا يخصهم طالما الجميع بخير ..

                         2    )

        بعد ثلاثة أشهر من تلك الحادثة المؤسفة .. كان هناك
 ثلاث جثث على ذات الطريق ..
ضجّت القرية والقرى المجاورة بالخبر المفزع.. وبدأ الخوف
يجتاح النّفوس .. و الأهالي يشعرون بالقلق على أبنائهم وعلى
 أنفسهم ..
وتحدّث النخبة من القرية عن هذه القضية :
_ جميعهم قتلى .. يا له من أمر مروّع !
_ أعتقد أنّ هؤلاء الثلاثة متورطين ضمن عصابة ماكرة !
_ تلك القرية .. لقد حدثت عندهم أحداث مشابهة قبل عشرين
 سنة  ..
_ إنّ الضحايا ليسوا من تلك القرية فقط .. بل الاثنان الآخران
من قرية أخرى ..
_ الصحف والإعلام لا يهمهم أمرنا .. بل هم يبحثون عن أيّ
مادّة دسمه ليملؤوا بها فراغ برامجهم ..

      أما أغلبهم  فكان يرى بأنّ مثل هذه المواضيع لا يجب
مناقشتها أو الاهتمام بها لأنّها تبثّ فيهم طاقة سلبية وتجعلهم 
ينظرون للحياة بنظرة سوداوية وتصيبهم بالاكتئاب ..
 لذلك هم ينظرون دائمًا للجانب المشرق من هذه القضيّة بأنّ
 أحدًا من أهل القرية لم يكن من الضحايا .. وهذا في حدّ ذاته
أهم ما في الحدث المؤسف من وجهة نظرهم ..!
ومع تأزّم الوضع والقيل والقال اقترح عريف القرية مع نخبة
 من القرية بأن يكفّ الأهالي أطفالهم عن اللعب في الخارج
لوحدهم .. وأن يلزموا بيوتهم بعد الساعة السادسة مساء
فلا يخرجون إلا للضرورة القصوى ..
استحسن أهالي القرية الاقتراحات وعملوا بها وحرصوا
عليها ..
      و لكن مع مرور ثلاثة أشهر أخرى كان الناس قد بدؤوا 
ينسون الأمر وعادوا ينغمسون في تفاصيل حياتهم ..

                      (    3    )

         بعد مرور ستة أشهر وفي مساء أحد أيام الخريف
 كانت الساعة السادسة مساء حين قرع أحدهم باب صاحبنا
يسأله عن ابنه الصغير الذي كان يلعب في الخارج ولكنّه
لم يعد ..!
لم يكن الأب الوحيد الذي يبحث عن ابنه .. لقد كان هناك
 عائلة أخرى تبحث عن ابنها أيضًا  ..
بحلول الساعة الثامنة مساء .. ورغم أنّه تم إبلاغ الشرطة
كان الجميع قد استنفر للبحث عن الصبيين الذين لم يتجاوزا
 التاسعة ..
 عاد أغلبهم حين تجاوزت الساعة الثانية عشر بعد منتصف
الليل .. بدت القرية في تلك الليلة كأنّها تستعد لحدث مهم ..
فجميع المنازل مضاءة على غير العادة ..!
        يالها من ليلةٍ حشد القلق فيها جيوشه ليوزع كتائبه 
على أهالي القرية الحزانى ..
فالكلّ يدعو .. والكلّ عينه على الساعة يرقبها بين لحظة
وأخرى  .. ومن يشيح ببصره يرهف سمعه علّه يسمع
شيئًا في الخارج ..
         مرّت ساعات الليل ثقيلة .. بطيئة .. قاتلة ..!
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولكن لا أثر .. ورغم كلّ
 الأحاسيس الرهيبة التي شعر بها الأهالي والانتظار بقلق
وتحسّس أيّ حركة خارج المنزل إلا أنّ الأمل كان يملأ قلوبهم
من أنّ الطفلين ربما تاها أو حدث لهما ما حبسهما في مكان
 ما .. وأغلب الظنّ بأنهما معًا  ..
فالجميع يعرف بعضه في هذه القرية ..
الساعة الثانية كان الضجيج قد هدأ وعلى ما يبدو أنّ الجميع
استسلم للنوم .. وكأنّ كتائب القلق غادرت جميع المنازل
حيث خيّم الظلام على المنازل ماعدا منزلين ..!
كانت عائلتا المفقودين تعيش حركة لا تنتهي ..
حركة من القلق والأمل والرجاء والأوهام المحبطة ..
والبكاء ..
فكلّ أمّ منهما تروح جيئة وذهابًا تذرع المنزل الذي تراه
قد ضاق عليها .. فتارّة تدعو .. وتارّة تبكي  ..
وحتى عندما تفكر بالاسترخاء في محاولة مستميتة لتهدئ
نفسها  فإنّ عينها لم تكن تفارق النوافذ ..!
أما الإخوة فهم يتناوبون ما بين النوم والاستيقاظ وبين
الحالتين كان السؤال المطروح : هل عاد أخي ..؟!
أمّا الآباء وبعض من الأصدقاء المقربين فقد عادوا الساعة
الثالثة منهكين .. مجهدين .. وملامح الإحباط والصدمة ترتسم
على وجوههم لم تكن هناك إجابة شافية رغم كل الجهد الذي
بذلوه ..
       ومع شروق فجر جديد .. كان أهالي القرية قد استيقظوا
والكلّ يتساءل عن الصبيين !
ولكنّ الإجابة كانت على ذات الطريق ..
حيث قام  أحد رجال القرية المجاورة بالإبلاغ عن جثتين
لصبيين لم يتجاوزا التاسعة ملقاة على قارعة الطريق !

                   ..  تمّت  .. 

                            الكاتبة
                        حنان الغامدي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أعـــزائي الكــرام ...

حتى تستطيعوا التعليق يمكنكم اختيـــار

التعليق بـاسـم :URL الاســــم / العنوان

أشــــــــرف بقـــــــراءة تعـــليقـــاتكـــم ...

فـــرأيكــــم محـــــــطّ اهـــتمـــــــامي ....

<<
<<
<<