الخميس، 25 يونيو 2020

❧ .. يومًا ما .. 1 .. ❧


 .. سلسلة ..        

                                  .. الضاحية الغربيّة  .. 



         وصلت تلك السيّدة أخيرًا لتلك المدينة التي كانت تحلم باقتناء 
منزل فيها .. كانت تريد الاسترخاء والحياة في هذه المدينة التي سمعت 
عنها كثيرًا وها هي اليوم ستغدو من سكانها .. بعد أن قبلت بكلّ الشروط 
المعقدة ..
        استقلّت العربة التي حجزتها مسبقًا .. كان رقم منزلها الجديد 
معروض على نافذة تلك العربة  .. وما إن ركبت حتى تفاجأت بأنّ من 
تقود العربة سيّدة والتي بادرتها ما إن استقرّت واعتدلت :
_ عذرًا أيّتها السيّدة هلا أريتني بطاقة السكن لأتأكد ؟
_ بكلّ تأكيد تفضلي ..
وما إن تأكدت ناولتها البطاقة ثم تحركت للمكان المنشود ..
وأثناء انطلاقها لمنزلها الجديد ومن خلال نافذة العربة كانت تتأمّل 
المنازل التي تتميّز بمبانٍ ذات شكل واحد ولون أبيض وحديقة 
صغيرة أمام كلّ منزل مسوّرة بسور معدني أبيض..
سقوف المنازل ذات لون قرمزي .. والأرصفة تحمل لونًا ورديًا
 وعلى طولها ترتفع أعمدة الإنارة الأنيقة ..
المتاجر الصغيرة ذات الحجم الواحد والألوان المبهجة .. بدا
مظهر السكان ودودًا .. فالمارّة يسيرون بهدوء فمنهم من يقرأ 
الصحف .. ومنهم من يجلس في أحد المقاهي ليحتسي قهوة
الصباح .. ومنهم من هو مشغول بهاتفه الخلوي النّاس في حركة 
والأطفال مع آبائهم وأمهاتهم ..
     كان كلّ شيء يشبه الحلم ..!
 تنهدت بارتياح وابتسامة واسترخت على مقعد العربة ..
 أغمضت عينيها كما لو كانت تريد أن تستوعب نظام هذه المدينة 
بعد نضالها للحصول على فرصة للعيش فيها .. " الجوسق
كان هذا هو اسم هذه المدينة .. اسم غريب ولكنّه يعني القصر
 الصغير والحصن ..إنّ هذه المدينة الكبيرة تختلف في نظامها 
عن باقي المدن .. ورغم أنّها تابعة للدولة التي أتت منها  إلا 
أن نظامها مستقلّ تمامًا .. وليس من السهولة أن يسكنها أيّ 
شخص .. فلها نظامها المعقد فالمدينة الأساسية تعيش فيها 
العائلات ..وتنقسم ضواحيها لقسمين .. ضاحية شرقية .. 
وضاحية غربية .. وهاتان الضاحيتان لهما نظامهما 
الغريب بدا الطريق طويلاً حين سألت  :
_ عذرًا هل المنزل لازال بعيدًا ..؟!
_ يؤسفني القول ، نعم .. فأنت ستسكنين الضاحية الغربية وهي 
خارج المدينة ..
_ هل سبق وأن أوصلت أحدًا للضاحية الغربية ..؟!
_ مؤخرًا ؟! كثير ..أنا أعمل هنا منذ ثلاث سنوات ..هذه
السنة نقلت حوالى أربعين سيدة .. لقد أصبح العدد كبيرًا تجاوز
 الألفين امرأة ..
_ ياااه .. هذا مثير حقًا .. هل لك أن تخبريني حدود أعمارهن ؟!
_ الحقيقة في الغالب هنّ في عمر الأربعين وما فوق لكن السنوات 
الأخيرة وبعد أن تم تعديل قوانين الضاحية كثيرًا عن السابق .. 
أصبحنا نرى فتيات في الثلاثين وربما أصغر .. هناك تعديلات كثيرة 
وقوانين كثيرة تغيّرت .. هذه المدينة بأسسها وقوانينها لها أكثر من
 ربع قرن .. ومع ذلك التغيير فيها بطيء جدًا ..
_ ولماذا التغيير ؟! فكرة هذه المدينة جميلة جدًا ..أنا سعيدة أنّه يوجد 
مدينة بهذا النظام ..
_ أرجو أن تستمتعي أيّتها السيّدة الفاضلة ..
_ شكرًا لكِ ..!
استرخت وأغمضت عينيها قليلاً ثمّ أخرجت هاتفها الخلوي لتتصفح 
برامجها المفضلة ..
وبعد مرور ساعة !
_ ها نحن ندخل الضاحية الغربية ..
فتحت عينيها بحماس .. كانت البوابة تبدو جميلة ذات لون أسود 
مطّعم بزخارف ذهبية .. بدت لها كبوابات ملكية ..
كانت السيدتان المسؤولتان عن البوابة تستفسران وتتأكدان
من أوراقهما .. ثم سُمح لهما بالدخول ..
_ يا للدهشة ، حتى المسؤول عن البوابة سيدات !
هكذا نطقت تلك السيّدة بحماس بعد أن التقطت صورة سريعة 
بهاتفها للبوابة .. وعلى الفور قالت السائقة :
_ عذرًا سيدتي يجب أن تنتبهي بأنّه ممنوع تصوير الأشخاص
أو النشر لأنّ هذا يعرضك للمساءلة ..
_ بالطبع لن أفعل .. أنا التقط صورًا للمكان فقط ..
وبعد أن دخلتا من البوابة .. مضتا في طريقهما الذي تمتدّ على 
جانبيه الأشجار المتصلة ببعضها .. إلى أن أشرفتا على مساحات 
خضراء .. كان هناك مجموعة من السيدات اللاتي انتشرن للنزهة ..
وأخيرًا بعد أن ابتعدتا عن المساحات الواسعة بدت المنازل الصغيرة 
تقترب منهما شيئًا فشيئًا .. حتى أصبحت المنازل منتظمة على 
الجانبين همست السيّدة :
_ المنازل صغيرة جدًا لكنّها جميلة ..
_ إنّها تسع لشخصين فقط .. وأحيانًا لشخص ..
_ أهااا..
قالت السائقة بقلق :  
_ أرجوكِ سيّدتي ضعي هاتفك جانبًا .. لا تبرزيه هكذا من النافذة 
حتى لو لم تلتقطي الصور ..
وضعته جانبًا بسرعة ثم عادت تتأمل المنازل ..
ورغم المسافات التي لا تتجاوز عدّة أمتار أحيانًا بين كلّ منزل وآخر 
والتي تمتلئ بالأشجار المشذّبة إلا أنّ المنازل بدت متقاربة ومنظمة 
بشكل مذهل ..
      كانت السيّدات في كل مكان .. فهناك من تجفف ملابسها على 
حبل الغسيل .. وهناك من يجلسن مع بعضهن .. وهناك من تحتسي 
القهوة لوحدها في حديقتها .. وهناك من يسرن على طول الطريق 
بمحاذاة عربتها .. وبعد التوغل بين المنازل ..
_ لقد وصلنا .. أعتقد هذا هو المنزل ..
تأمّلت السيّدة الرقم الموجود :
_ المنزل 1025- ك .. نعم إنه هو ! شكرًا لكِ ..
خرجت السيّدة من العربة .. وهي تتأمّل منزلها الصغير والذي
لا يختلف عن بقية المنازل .. أبيض وسقفه من القرميد الذي يحمل 
اللون الأخضر المائل للأزرق .. مكوّن من طابقين وأمامه حديقة 
صغيرة مسوّرة بسور أبيض خشبي ..!
التقطت صورة له وهي تقول :
_ أعتقد بأنّه من حقي أن أرفع هاتفي لأصوّر الآن ..
      ثم اتجهت بحماس نحو باب منزلها الذي يشعرها
بأنّ بعضًا من أحلامها صارت واقعًا ..!

               (       2      )

        في صباح اليوم التالي استيقظت على صوت العاملة :
_ سيّدة فاتن ..!
نظرت للوقت كانت الساعة تشير للثامنة صباحًا ..
_ ما الأمر ؟!
_ هناك سيدة ترغب في التحدث إليك ..
_ في هذا الوقت ؟! من هي ..؟
_ أعتقد بأنّها السيدة آمال .. إنها تسكن في المنزل المجاور ..
_ حسنًا أخبريها بأنّي سأراها الساعة العاشرة ..
_ حسنًا ..!
نهضت .. واقتربت من نافذتها حيث رأت السيدة تبتعد عن منزلها ..
" يا ترى ماذا تريد ..؟" جلست تقلّب في هاتفها ثم تعجبت :
" غريب لماذا الشكبة الإلكترونية غير متوفرة ..؟! "
قامت بالاغتسال والنزول للطابق الأرضي .. رأت على طاولة 
الطعام وجبة إفطار عبارة عن خبز محمص وبيض مسلوق .. وبعض
 المربى والزيتون والجبن ..وضعت هاتفها وجلست بحماس لتأكل ..
_ إنّه من السيّدة آمال .. تبدو لطيفة .. لقد قالت بأنّها ستكون على
 الموعد الساعة العاشرة ..
كانت العاملة تتفوّه بهذه الكلمات وهي تعدّ الشاي .. 
نظرت السيّدة " فاتن " للعاملة .. وهي تأكل .. وتتأمل هاتفها بانزعاج :
_ ماخطب الشبكة هنا ..؟! 
نظرت العاملة لها بتعجب .. ثم عادت تنهي مافي يدها ..
   ولكن بالرغم من انزعاجها إلا أنّها كانت تشعر بارتياح وهي تتأمّل 
المنزل النظيف والمرتب إذ قامت بشحن أغراضها قبل أن تأتي بأسبوع .. 
وطلبتْ عاملة ولكنّهم  أخبروها بأنّ العاملة ليست دائمة بل هي ستبقى 
يومين بعد وصولها .. 
ثم ستكون حسب الطلب بعد ذلك على أن تكون مرّتين في الأسبوع .. 
قدّمت العاملة الذي شارف عمرها على الستين الشاي وحين أرادت
 الخروج استوقفتها السيّدة فاتن قائلة :
_ نارين  ..
التفتت العاملة :
_ هل تريدين شيئًا آخر سيدتي  ..؟
_ لا ، أردت أن أسألك منذ متى وأنت تعملين هنا ..؟!
_ منذ خمسة عشر عامًا ..
_ ياااه .. لم أتخيل .. إنها فترة طويلة .. ألهذه الدرجة المكان مريح ..؟!
نظرت العاملة للسيّدة فاتن التي تبدو في منتصف الأربعين ولكنّها 
من الشخصيات التي تهتم بنفسها كثيرًا ابتداء من تلوينها لشعرها
 وجسمها المتناسق وهندامها الأنيق .. ولولا أنّ المكتب أخبرها بأنّها 
سيّدة في منتصف الأربعين لظنّت أنها في منتصف الثلاثين فقد كانت
 يوم أمس متألقة جدًا :
_ لا يوجد مكان كامل يا سيدتي .. ولكن مميزات هذا المكان أفضل بكثير
 من غيره ..!
_ إنّك محقة .. يكفي أنّ هذا المكان مخصص للنساء فقط  للسيدات
 المنهكات .. واللاتي يرغبن بالابتعاد عن كلّ شيء .. للاسترخاء واستعادة 
قوتهنّ ونشاطهنّ وصفاء ذهنهنّ ..! اسمعي ..اجلسي قليلاً معي ..
كانت في تلك اللحظة قد انتهت من  تقشير البيضة .. في حين قالت
 لها نارين :
_ شكرًا لك سيّدتي ولكن أخشى مضايقتك ..
_ اجلسي لا عليك .. أنا من طلب ذلك منك ..
جلست نارين في حين بادرتها السيدة فاتن :
_ ألم تفكري في الخروج من هنا ..؟
ردّت وبين شفتيها ابتسامة سخرية تحاول أن تخفيها  :
_ لا ، ولن أفعل .. من الجنون أن أفعل ذلك في هذا الوقت لقد بقي لي 
خمس سنوات فقط وأمتلك بيتًا هنا ..
_ لم أفهم ..!
_ إنّ من تعمل لعشرين سنة متواصلة في هذه المدينة دون انقطاع يحق
 لها امتلاك منزل هنا ..
_ يا إلهي ..! إنك تذهليني بهذه المعلومات .. الحافز مذهل ..
_ هناك من هنّ أقدم منّي لذا تجدين الكثير من العاملات هنا متمسكات 
بعملهنّ ويبذلن جهدًا مضاعفًا ويتفانين فيه ويتبعن أدقّ القوانين حتى 
لا يتم طردهنّ ..
_ إذن مؤكد أنت تعرفين الكثير من السيدات هنا .. هلا حدثتني عنهنّ ..
تأملت نارين السيّدة فاتن قبل أن تجيب ثم قالت :
_ إنّ المكان مملوء بالسيّدات الكبيرات في السنّ أمثالي ..
ابتسمت وهي تنطق الكلمة الأخيرة ثم أكملت :
_ والمطّلقات والأرامل ومؤخرًا فُتح الباب لأيّ سيدة ترغب في امتلاك
 منزل هنا .. شريطة أن يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين .. ثم بعد
 فترة من الزمن سمح للأمهات بالتملك  ولكن كان هناك شرط غريب ..
_ ماهو ..؟!
_ أن يكون أطفالها من الإناث فقط  ..
_ فقط الإناث ..؟!
_ فقط ..
_ لكنْ نارين .. ما قصدته هو أن تحدّثيني عن شخصيات السيّدات هنا .. 
عن طباعهنّ .. بماذا تتميّز كلّ واحدة منهنّ  ؟! مثلاً السيّدة آمال قلت منذ 
لحظات بأنّها تبدو لطيفة هل هي كذلك فعلاً ..؟! أم ..
توقفت السيدة فاتن عن الحديث بعد أن لاحظت ملامح  نارين التي اقترنت 
مع نظرة ذات معنى لكنّ الأخيرة قالت لها :
_ أفضّل أن تكتشفيهنّ أنت بنفسك سيّدتي ..
_ هل ذلك ممنوع ..؟!  لم أكن أعلم ..و ..
_ لا ، ليس ممنوعًا .. ولكنّي سأتحدّث عن وجهة نظرعاملة تشعر
بضغوط في اليوم أكثر من أيّ شخص .. عاملة عليها أن تحبس 
غضبها في الكثير من الأحيان وتتمتم بينها وبين نفسها عن الكثير 
من السيدات اللاتي تدخل منزلهنّ .. لذا لن يكون رأيي عنهنّ منصفًا ..
نظرت السيدة فاتن للعاملة نارين بدهشة ممزوجة  بكثير من التقدير
 والاحترام ثم قالت :
_ أنا  .. أنا لم أقصد أبدًا أن تكون نميمة ..
ردّت نارين  وهي تهم بالنهوض ..
_ لا سيدتي ، لا عليك ..
_ لقد اندفعت في مشاعري ورغبتي في اكتشاف المكان ومن حولي 
ولكنّي أردت أن أتعرف عليهن قبل اللقاء بهنّ ..
_  اسمحي لي ، لديّ بعض الأعمال عليّ إنجازها ..تعلمين
فغدًا سأغادر ..
_ آه فهمت .. يمكنك الذهاب ..

    تأمّلت السيّدة فاتن العاملة نارين وهي تتجه للغرفة المجاورة
لقد كانت ممتلئة قليلاً ذات قسمات جامدة وعلى ما يبدو قد حنكتها
الظروف والحياة القاسية وجعلتها سيدة حكيمة ..
 احتست الشاي وهي تفكر في نفسها :
 "يا لي من أنانية .. إنّي حتى لم أكلّف نفسي سؤالها عن حياتها
هل تزوجت ؟ هل لديها أولاد ..؟ من أيّ بلد ..؟! ماهي ظروفها ؟
آه لا فائدة يبدو أنّي تركت انطباعًا سيئًا عني .. ترى ماذا ستقول
للسيدات اللاتي تعرفهنّ حق المعرفة عنّي .."
تنهدت بعمق .. ثم أخذت كوب الشاي واتجهت لغرفة المعيشة
وأخذت تتأمل من النافذة .. ثم اختلست النظر للساعة المعلقة
على الحائط .. لكنّها ما لبثت أن شهقت :
_  يا إلهي لقد مرّ الوقت دون أن أشعر ..
أسرعت نارين خائفة :
_ ما الأمر ..؟! هل هناك ..!!
ناولتها كوب الشاي سريعًا وهي تقول بارتباك وحماس :
_ السيدة آمال ستأتي بعد ربع ساعة استقبليها وأدخليها غرفة
الجلوس ..
وأسرعت للطابق العلوي راكضة وهي تقول :
_ إنّهم يقولون الأوقات الممتعة لا أحد يشعر بها  ..
نظرت نارين بدهشة ثم ما لبثت أن ابتسمت بتعجب وهي تهزّ رأسها
 قائلة :
_ أشكّ بأنّها في منتصف الأربعين ..!

                                .. يتبع ..

                                                     الكاتبة
                                          حنان الغامدي  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أعـــزائي الكــرام ...

حتى تستطيعوا التعليق يمكنكم اختيـــار

التعليق بـاسـم :URL الاســــم / العنوان

أشــــــــرف بقـــــــراءة تعـــليقـــاتكـــم ...

فـــرأيكــــم محـــــــطّ اهـــتمـــــــامي ....

<<
<<
<<